1-التعريف:
ما هو اللعب؟
كثيرة جداً التعريفات التي أعطيت للعب. منها ما ركّز في تعريفه على البهجة التي يثيرها ذلك السلوك ، ومنها ما ركز على التحرر من القيود، ومنها ما ركّز على النشاط المتضمن فيه، ومنها ما ركز على حجم الانشغال العفوي الذي يستثيره، ومنها ما ركّز على التعلم الذي يؤمنه.
كل صحيح ذلك بدرجة أو بأخرى. ولكن كيف نعرّف سلوك اللعب؟ هل هو ذلك كله أو بعضه أو غيره؟ هل صحيح ان البهجة هي جزء من اللعب مثلا؟ إن مراقبة طفلة تلعب وتنهمك مثلا بتركيب قطعة فوق أخرى والجهد الذي تبذله، يوحي لنا بأن اللعب ليس دائماً مبهجاً. وهل صحيح أن اللعب هو تحرر من القيود؟ يصح ذلك لو كنا نتكلم عن شخص كبير وليس طفلا، فالكبار إذا ما لعبوا صح فيهم ذلك التحرر، أما الأطفال فكثيرا ما يكون اللعب لديهم ممارسة شديدة التنظيم ولا يشعر معها الطفل بحرية التصرف. لنأخذ مثلا لعب الأدوار، إن التقيد بشروطه ضروري من إجل استمرار اللعبة، ومخالفة السلوك النمطي للدور الملعوب يؤدي بالأطفال إلى الاحتجاج والاستياء وإلى فرط اللعبة. وهل صحيح أن كل سلوك لعب يؤدي إلى التعلم؟ لنراقب صبياً في السادسة من عمره يلعب لعبة “الغميضة” مثلا، ما الذي سيتعلمه؟ المشي، الركض، استكشاف المكان، التواصل مع رفاقه؟ بالطبع لا فهو يعرف كل ذلك جيداً، ولو كان التعلم هو مقصد اللعب لكان من الأجدى على الصبي ان يمارس لعبة جديدة.
يعالج جيل بروجير (Gilles Bourgère) مسألة تعريف اللعب من الناحية الفلسفية مشيراً إلى صعوبتها، بسبب هيمنة اللغة المنطوقة على تصوراتنا. فاللغة قد تؤدي إلى تشوش فهمنا، ذلك ” أنها لا تتصف بالضرورة بالحقيقة، ويمكن لوظيفتها البراغماتية أن تؤدي إلى الخلط بين عدة وقائع واتجاهات” . هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا لا نستقي مفهوم اللعب من لغة علمية معينة، بل من الاستخدام اللغوي اليومي، مما قد يزيد من الإضطراب اللاحق بالمعنى. من هنا يرى بروجير أن ثمة اعتباطية في إطلاق تسمية اللعب على أشياء مختلفة ومتناقضة. فنحن نستعمل مصطلح “اللعب” عى أنواع من السلوك لا علاقة بينها، كمثل قولنا “لعبة الأمم” أو “اللعبة السياسية” أو “لعبة الإغراء” وهي كلها تعني البالغين من الناس، ونقول أيضا “لعبة الغميضة” و”لعبة التركيب” و”لعبة بيت بيوت” وهي تعني الصغار من الناس. فكيف قام الذهن بمثل هذا الخلط؟ وبناء على أي أسس؟
من جهة أخرى يرى المؤلف أن الفكر الفلسفي الغربي تأثر بشدة برؤية أرسطو للعب بوصفه ضد الجد. فهذه الرؤية افقدت اللعب كل غاية خاصة بذاته، بل جعلته خاضعاً للعمل الذي يستمد تبريره منه . إنه تعريف بالسلب. وهذه النظرة السلبية شكلت خلفية الباراديغم السائد حول اللعب حتى زمن بعيد. ويبدو أن ما نشهده حالياً هو تحول في هذا الباراديغم، على قاعدة الربط ما بين اللعب والطفولة والبعد التربوي مما يبدّل تلك النظرة بنظرة إيجابية فعالة، ولكن من دون اختفاء الصورة القديمة تماماً، لذلك فما زال المفهوم حتى اليوم حاملاً للعديد من التناقضات والرؤى المتضاربة. وما زال الباحثون بعيدين عن الاستقرار على تعريف واحد ومحدد للعب، والحصيلة عدد كبير جداً من التعريفات.
ونستعرض فيما يأتي بعض هذه التعريفات:
-اللعب هو النشاط الانغماسي الذي يشارك فيه الاطفال الأسوياء بحماسة و تسليم (Scales, et al., 1991)
-اللعب هو مقطع من الحياة، هو نوع من الترتيب يمكن لأي واحد أن يتصرف فيه كما يشاء دون أن يخشى أي عاقبة (Csikszentmihalyi 1981).
-اللعب هو سلوك خال من الضغط، دوافعه داخلية، مضبوط من قبل اللاعبين، حر من القواعد الخارجية، غير جدي (بمعنى أن نتائج أفعال اللعب ليست حقيقية)، ممتع، غالباً اجتماعي ولكن يمكن ان لا يكون وغالباً تظاهري( Perry (1998.
للعب هو سلوك له أربع خصائص :
oهو في العادة سلوك طوعي.
oهو سلوك سار بذاته وبدون أي تعويض خارجي.
oهو سلوك يستدعي مستوى من النشاط (الجسماني غالباً) ومن الالتزام.
oهو سلوك مختلف عن غيره لأنه يتضمن نوعاً من التظاهر.
ويمكننا إيراد عشرات التعريفات، ولكننا مع ذلك علينا أن نقر بأن التعريفات كلها تصيب جانباً ولا تصيب الجوهر. فلو فندنا الخصائص السابقة لرأينا أنها لا تختص بما نسميه سلوك اللعب، فالطوعية قد تكون في القيام بالاعمال الإنسانية وهي أبعد ما تكون عن مفهوم اللعب، والسرور الذاتي قد يتأتى من الكتابة الحميمة وأيضاً هي ليست من اللعب بشيء، واستدعاء النشاط الجسماني والالتزام غني عن البيان أنهما سمتان في كل عمل ذي معنى، وأخيراً التظاهر وهو خاصية السلوك الاجتماعي بمعظمه. وبالطبع يمكن القول بأن بعض الالعاب لا تحمل مثل هذه السمات، مثال لعبة الباسكيت او الفوتبول التي لا نعرف ما وجه التظاهر فيها. وإذا ما قصد الباحث ان اجتماع هذه الصفات في فعل واحد هو ما يجعله لعباً فيمكننا في هذه الحالة ذكر مثال العمل الحزبي فهو عمل طوعي، وسار بذاته، ويتطلب الالتزام وشيئا من التظاهر، ولكن لم يحصل أن سمى أحد السلوك الحزبي لعباً.
ولقد اشار هويزنغا(Huizinga) إلى صعوبة التعريف، وفضَل وصف ست خصائص بارزة في اللعب وهي: أولا إن اللعب نشاط حر، ثانيا يقوم خارج الحياة الاعتيادية، ثالثاُ ليس جدياً ولكنه يأسر بشدة، رابعاً لا يرتبط بأي ربح مادي، خامسا له قواعد، وسادساً يساعد في الانخراط الاجتماعي.
ومن الواضح أن من السمات الرئيسية التي تميز اللعب على وجه الخصوص هو قيامه خارج الحياة الحقيقية، إنه تمثيل للحياة غير أنه ليس هي وبالتالي لا يقع على اللاعب أي تبعة على فعله، ولكن من أجل أن نبعد هذا السلوك عن أي عمل تمثيلي جدي، علينا إضافة صفة العفوية والمجانية على هذا التمثيل للحياة. إن اللعب هو إذن “تمثيل لمقطع أو لمهارة من الحياة اليومية، عفوي لا يقصد شيئاً برّانياً عنه”.
2-وظيفة اللعب:
إن الرأي السائد تربوياً اليوم هو التشديد على أهمية اللعب. ويرى غارفي (Garvey) أنه مما يؤكد على هذه الأهمية شيوع اللعب في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث تزداد احتياجات الفرد لمعرفة نفسه، ولفهم التواصل الشفهي وغير الشفهي، ولفهم العالم المادي والاجتماعي.
ويعتبر اللعب اليوم تجربة نضوجية بالكامل إن من حيث النمو أو من حيث التعلم. فمن خلال اللعب يختبر الطفل العالم المحيط به كما يختبر إمكاناته الذاتية في خضم هذا العالم، من دون التعرض لخطر التجربة الفعلية التي لا تؤهله قدراته الحالية على خوضها. إذن اللعب هو اختبار عيش مفتوح على إمكانيات واسعة من خلال ما يتيحه من توسيع للمخيلة ومن تطوير للقدرات الجسمانية والمعرفية والعاطفية ومن تعميق لمهارات التواصل.
طرح المحلل النفساني فينيكوت (Winnicott) على نفسه السؤال لمذا يلعب الأطفال؟ ووجد سبعة أسباب هي:
-السرور: يلعب الأطفال لأنهم يحصلون على السرور من كل التجارب المادية والعاطفية التي يتيحها اللعب.
-التعبير عن العدوانية: والعدوانية عند فينيكوت ليست شيئاً مستنكراً بذاتها ويجب التخلص منها، وإنما المشكلة تكمن في الأذى الذي ينجم عن التعبير عنها. وأهمية اللعب تكمن في أنه يتيح التعبير عن العدوانية بدون ان يرتد الأذى الناجم عنها على الطفل أو على أي شخص آخر. إن اللعب يشكل بيئة آمنة للتعبير عن العداونية.
-السيطرة على القلق: يلعب الطفل من اجل ان يسيطر على الأفكار والنزوات المقلقة التي لا يعرف في الواقع كيفية السيطرة عليها. لذلك فإننا إذا منعنا الطفل من اللعب فإنه سيتحول ناحية أشكال دفاعية أخرى (مثل الاستمناء او أحلام اليقظة).
-تنمية التجربة: لدى الكبار فرص عديدة لاكتشاف اشياء جديدة وزيادة ثرائهم. أما الطفل فليس لديه سوى اللعب والتخيل الهوامي(fantasme) ليثري خبرته ويكتشف غنى العالم.
-إقامة صلات إجتماعية: إذا كان الكبار ينشئون صداقات وخصومات في العمل، فإن الأطفال يتعلمون في اللعب إقامة صداقات وخصومات. إن اللعب يشكل إطاراً للتفاعلات العاطفية والشخصية.
-تكامل الشخصية: يربط اللعب بين علاقة الطفل بالحياة الداخلية وعلاقته بالعالم الخارجي. ويشكل اللعب مجالا للربط بين مظهرين أساسيين في الحياة: الوظيفة الجسدية والوظيفة الفكرية.
-التواصل مع الآخرين: يساعد اللعب، كما الأحلام، على التعرف على الذات وعلى التواصل في مستوى عميق. إن اللعب هو اللغة التي يحاول الأطفال بواسطتها التواصل مع الكبار في محيطهم.
3-تطور اللعب:
عرف اللعب في كل المجتمعات وفي كل الأزمان. ومن أنواع الألعاب ما يتخطى الإطار الثقافي والاجتماعي لشعب معين، ومنها ما هو انعكاس له. فبعض الألعاب عرف انتشاراً عالمياً بحيث لم يتمكن الباحثون من تحديد المنشأ الاجتماعي لهذه الالعاب او كيفية اختراعها وأسبابها، فاعتبرت تجسيداً لتجربة انسانية شاملة. أما النوع الآخر من اللعب فهو وثيق الصلة بمعارف وأديان شعب معين، ويشكل وسيلة لتوصيل المعارف ولتمريرها من جيل إلى آخر.
ويقدم لنا الباحثان جيل شامبرلاند وغي بروفوست نظرة شاملة حول تطور اللعب تاريخياً. فيذكران أنه في مرحلة ما قبل التاريخ توجد بعض الأدلة القليلة التي تفيد عن ممارسة اللعب، خصوصاً منه لعب التظاهر (Faire semblant) الذي كان يهدف إلى تعلم حركات جسمانية والتدرب عليها واتقان تنفيذها. كما أن السرد بواسطة المحاكاة (Simulation) شكل وسيلة جيدة لنقل أحداث التاريخ خاصة وأن الثقافة الشفهية لم تكن قد تطورت بعد، وطبعا الكتابة كانت غائبة .
ويرى الباحثان أن اللعب لم يكن في أي يوم من الايام نشاطاً خالياً من المعنى، لا بل إن عمليات التعلم بالتقليد (Imitation ) كانت من اقدم الاستراتيجيات المعرفية التي عرفها الانسان.
وبعض الألعاب التي ما زالت منتشرة حتى اليوم إنما تمتد جذورها عميقاً في التاريخ، مثل ألعاب الرقع (الداما والشطرنج). وهناك آثار ورسوم أثرية تدلنا على وجود العاب متشابهة في مجتمعات متعددة ولكن قد تختلف مسمياتها بين مجتمع وآخر. من هذه الآثار ما يدلنا على أن المصريين القدامى عرفوا لعبة تشبه لعبة الشطرنج اشتملت على رقعة وأحجار ونرد. وكان تحريك الاحجار يرمز إلى تيه الروح في العالم الآخر، ورمية النرد تعبر عن إرادة الآلهة، ما يوحي بأن الكثير من ألعاب القدماء كانت تأخذ طابعاً دينياً ، وربما كانت تشكل تعويضاً عن غياب النصوص المقدسة لنقل التعاليم الآلهية وشرحها. وبشكل عام يمكن القول أن الألعاب كانت أدوات يعبر من خلالها الأقدمون عن التمثلات والأنشطة المرتبطة بحفظ النوع البشري وإرثه الثقافي والمعرفي.
وفيما بعد، أي في العصر القديم والوسيط، تبين الآثار المكتوبة والرسوم عن وجود أشكال مختلفة من اللعب في المجتمع. ويبدو أن اللعب قد ازدادت أهميته على نحو كبير بحيث شكل موضوعاً تكلم عنه مفكرون كبار. فنرى أن أفلاطون، الذي يعتقد ان هدف التربية يجب ان يكون جعل الطفل مواطناً صالحاً، يقترح اللجوء إلى التسلية واللعب التي تيسر هذه العملية. كذلك شدّد أرسطو على ضرورة عدم فرض اعمال ودروس إجبارية على الأطفال، واقترح من اجل تحضيرهم للمستقبل استخدام الألعاب التي تشكل محاكاة للأنشطة الجدية.
وتجدر الإشارة إلى أن الرومان اطلقوا على المدرسة واللعب الاسم نفسه (Ludus).وكان المعلمون يلجأون إلى المسرح واشكال التمثيل الأخرى التي تتطلب مشاركة التلاميذ من أجل استيعاب الحكايات والأساطير والأحداث التاريخية الكبرى. و لجأوا من أجل تعليم الحروف إلى قطع من العاج أو من الحلوى على شكل حروف، وإلى ألعاب بسيطة تقوم على تسمية الحروف وترتيبها وأحياناً أكلها.
إن أول كتاب وصلنا عن اللعب يعود إلى عام 1283 ويتضمن مجموعة العاب اسبانية ومن شعوب المور ، وعلى الأخص اللعبة التي كانت مفضلة آنذاك للملك أي لعبة الشطرنج. وهي لعبة هندية كانت معروفة سابقاً بعنوان “شاطورانجا” وهي كلمة سنسكريتية تعني “لعبة الملك”. ثم تطورت هذه اللعبة وتكيفت بحسب البيئة الأوروبية واساليب الحروب في ذلك العصر بحيث صارت شاهداً على العصر وعلى تمثلاته الاجتماعية.
ومن الألعاب التي عرفت في ذلك العصر أيضا لعبة الحية والسلالم ومصدرها أيضاً الهند، واستخدمت من أجل تعليم الهندوسية. إنها نوع من التمثيل الرمزي لسفر الروح من الأرض إلى السماء. فالهندوس يؤمنون بالتقمص، ويرون أن الحياة الفاضلة تسمح بالتقمص في كائن أسمى، من حيوان إلى أنسان، أو من طبقة أدنى إلى طبقة أعلى. والهدف هو الوصول، بواسطة حيوات صالحة، إلى التحرر من التقمص وبلوغ الانتشاء الأسمى، أو النرفانا، أو السماء. وتمثل الرقعة في مسارها من الاسفل إلى الأعلى مختلف مستويات التقمص. السلالم تمثّل الخير، والحيّات تمثل الشر. لقد استخدمت هذه اللعبة من اجل التنشئة الدينية قبل أن تصل إلينا اليوم بوصفها لعبة سباق عادية .
ثم عرفت اوروبا انتشاراً كبيراً للديانة المسيحية الصارمة التي ربطت بين المتعة والإثم. واعتبر اللعب من الأمور المحرمة. وصارت المدرسة عبارة عن مجموعة واجبات. غير أن بروز الفكر الأنسانوي دفع بالمفكرين التربويين لإدراج حصص الراحة (الفرصة ) في الدوام المدرسي وإدراج حصص الرياضة باعتبارها مفيدة للنشاط البدني. ولقد ساهم إيراسم Erasme (1469؟- 1536) بجعل اللعب يحتل موقعاً خاصاً به في انشطة التعليم، فهو يرى بأن لا درس أكثر إفادة من ذلك المقدم بواسطة اللعب. ثم عمد اليسوعيون إلى إنشاء مدارس حيث اللعب لم يبق محصوراً في النشاط الجمساني وإنما تخطى ذلك إلى الأنشطة المعرفية نفسها. والعديد من الأنشطة صارت تقدم بصيغة مسابقات، حيث اعتبرت المنافسة حافزاً على الانجاز، واستخدمت أيضاً العاب الأدوار والمسرح، والانشطة الملائمة للتعليم من أجل التمكن من اللاتينية المكتوبة والمحكية .
ولم يعرف عن الإسلام موقف متشدد أو رافض للعب. بالعكس ثمة دعوة لتحفيز اللعب عند الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة، فإن من الأحاديث الاسلامية الشائعة القول “دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين” وقد وردت هذه التقسيمات برواية أخرى: “لاعبه سبعاً وهذبه سبعاً وصاحبه سبعاً” .
في القرن السابع عشر، انتشرت في اوروبا لعبة الوزة، وهي رقعة تتضمن في العادة رسماً تاريخياً أو دينياً، على شكل مسار لولبي ويتقدم عليه اللاعبون بحسب الأعداد التي يحصلون عليها بواسطة النرد. ولقد أصبحت هذه الطريقة واحداً من أشكال اللعب الأكثر توظيفاً من أجل غايات تربوية.
اما تربويو القرن التاسع عشر (الاول في بدايته والثاني في آخره) فإنهم طبعوا عصرهم بالتجديد، وبجرأة أفكارهم التربوية. في كتاب “اميل” حرك روسو فكرة استغلال نوازع الطفل للسؤال والاكتشاف والتصرف كعنصر أساسي في التعلم. واعتبر أنه مثلما يجب أن يعامل البالغ بوصفه بالغاً فيجب كذلك معاملة الطفل كطفل وليس كبالغ صغير. كذلك الأمر بالنسبة إلى بستالوتزي الذي كانت له آراء شبيهة من حيث اعتباره أن الطفل بحاجة إلى القيام بتجارب محسوسة قبل القيام بتجارب مجردة ورمزية. وهذه الفكرة الأخيرة سوف تتبناها لاحقاً مونتسوري وتطورها. لقد نادى هؤلاء جميعا باحترام الطفولة، وأكدوا على أهمية اللعب في نمو الطفل، ومهدوا الطريق بذلك أمام بياجيه، الذي مهد بدوره الطريق لإدماج تدريجي لأنشطة تفاعلية وتمارين لها علاقة بأذواق وبيئة الأطفال في البرامج الدراسية.
في الوقت عينه انتشرت في اوروبا الالعاب الحربية ووصلت إلى انكلترا والولايات المتحدة الاميركية واليابان واستخدمت كوسائل في إعداد الجنود. ولقد ساعدت هذه الالعاب على القيام بتصور ذهني للحروب من اجل تنمية قدرات التحليل، وحل المشكلات واتخاذ القرارات لدى جنود المستقبل .
وفي فجر القرن العشرين، تزايدت المدارس. وكان هدف البرنامج المدرسي النموذجي استكمال التعلم الحاصل في البيت، بحيث يصار في المدرسة إلى تدريب الذهن على الاستظهار والحفظ، وفي البيت إلى تنمية العضلات من خلال الأشغال الجسمانية.ومع تزايد دعوات التربويين، ديوي في نيويورك وديكرولي في بلجيكا ومونتسوري في ايطاليا وبياجيه في سويسرا، إلى تربية حديثة تعطي للطفل مجالا للتعبير وجد اللعب سبيلا متسعاً للدخول إلى المدرسة.
وإلى جانب إقرار أهمية وظيفة اللعب التربوية، فإن بروز النظرية الفرويدية والتأكيد على أهمية اللاوعي في بناء الشخصية، أدى إلى تحول الاهتمام ناحية المظاهر العيادية في اللعب. وتم التعامل مع لعب الطفل بوصفه تعبيراً عن رغباته ومآزمه اللاواعية، وكان فرويد اول من تكلم عن القيمة الرمزية للعب بارتباطه بالمشكلات الانفعالية للطفل .
ثم في غضون الحرب العالمية الثانية، صرفت طاقة كبيرة على تكوين العسكريين. وتم اعتماد العاب التظاهر من بين استراتيجيات التكوين، فجرى انتاج ليس فقط أدواب لعب عسكرية، جيوش ودبابات ووسائل حربية مختلفة، وإنما وضعت العاب جماعية ذات قواعد وفيها أهداف الربح والقضاء على العدو. هذه التجربة في التكوين العسكري من خلال اللعب انتقلت بعد الحرب إلى المصانع والشركات، باعتبار أنها إذا كانت ناجحة في العسكر فلا بد أن تكون ناجحة في تكوين أناس قادرين على إدارة شركات والقيام بالتسويق من أجل الربح والاستهلاك وتكوين الرأسمال. فتم انتاج العديد من العاب الشركات (المونوبولي مثلا) .
وأخيراً في مرحلة الحرب الباردة تم انتاج العديد من العاب الصراع، المتمحورة حول محاكاة الأزمات الدولية، يجسد اللاعبون أدوار الأطراف المعنية، ويسعون إلى حل هذه الأزمات من خلال وجهات النظر التي يمثلونها.
إذن لم تكن اللعبة محصورة بالشأن التربوي التعليمي الضيق. وإنما ارتبطت بحاجات التطور الاجتماعي ككل. ولكن يبقى من المحطات البارزة في القرن العشرين التي ساهمت في تكريس اللعبة في الحقل التربوي على مدى التاريخ، كان اختراع الكهرباء واختراع البلاستيك. الأول أدى إلى اختراع الألعاب الكهربائية والثاني ادى إلى ابتكار العاب رخيصة وملونة وقابلة للغسل. وكانت النظريات الكبيرة حول الطابع التربوي للعب السائدة حينها محفزاً عظيماً لاستخدام هذه الألعاب. وهذا ما أدى إلى تنظيم أول مؤتمر تربوي عالمي حول اللعب في عام 1958 تحت عنوان “قيمة اللعبة التربوية”. ومن الجلي هنا أن التكلم عن الشان التربوي لا ينحصر بالمدرسة تحديداً ويمكن أن يكون شأناً أسرياً أو اجتماعياً عموماً. ولسوف ننتظر أكثر من ثلاثين عاماً بعد ذلك من أجل تنظيم اول مؤتمر حول اللعب والتعلم عام 1987 في كندا.
نظريات اللعب:
حاول الباحثون تفسير اللعب ووظيفته من خلال نظريات متعددة. وتستعرض سوزانا ميلر هذه النظريات بشكل مفصل مع مناقشة أبعادها. ونقدم في ما يأتي تلخيصاً سريعاً لأهم هذه النظريات :
•نظرية الطاقة الزائدة (Excess Energy):
أطلق سبنسر (Spencer) في منتصف القرن التاسع عشر هذه النظرية ومفادها أن اللعب هو تنفيس عن طاقة فائضة لا تجد لها تصريفاً في الشؤون الحياتية العادية. وربط ما بين اللعب والفن. فبرأيه أنه كلما زاد تطور الانسان قلّ الوقت الذي يتطلبه للمحافظة على الحياة وبالتالي زادت الطاقة في المراكز العصبية في الدماغ، التي ينبغي أن تصرف حتى يستعيد الجسم توازنه. ويأتي اللعب في هذه الحالة للقيام بوظيفة التصريف هذه.
وتبين ميلر أن هذه النظرية، على الرغم من صحتها في حالات عديدة، مثال تلاميذ المدرسة الذين يعمدون إلى لعب صاخب بعد وقت من التركيز على الدرس. غير أن هذه النظرية لا تفسر مثلا العاب الرياضة التي يمارسها الناس المتعبون من العمل، أو حين يلعب العالم الرياضي بالشطرنج. أي ان اللعب يتضمن احياناً المهارات نفسها التي تستعمل في العمل.
•النظرية التلخيصية(Recapitulation Theory):
قدم ستانلي هول (Hall) عام 1904 نظريته حول اللعب. وبرأيه فإن الأطفال هم حلقة في السلسلة التطورية من الحيوان إلى الانسان، ويمرون في حياتهم في كل مراحل تطور الجنس البشري. “فسرور الأطفال عند اللعب بالماء يمكن أن يربط بمسرات أسلافهم من الأسماك، حينما كانت الكائنات تعيش في الماء، وإصرارهم على تسلق الأشجار والتأرجح بين الأغصان يظهر آثاراً من حياة أسلافهم الأبعدين المشابهين للقردة. ويحب الصبية بين سن الثامنة والثانية عشرة صيد الأسماك وركوب القوارب، والصيد، وبناء الخيام، ويستمتعون بعمل هذه الأشياء وهم في جماعات. وتشبيه هذا بحياة القبائل البدائية أمر شديد الإغراء” .
إن نظرية هول تبدو جذابة ومفيدة من الناحية العلمية، ولكن كيف يمكن تفسير لعب الأطفال بالكمبيوتر اليوم؟ هل يمكن اعتبار ذلك استعادة لتجربة سالفة؟
•نظرية التدريب على المهارات أو التحضير للبلوغ Preparation for Adulthood:
أطلق كارل غروس(Karl Groos) في نهاية القرن التاسع عشر نظريته حول اللعب عند الأطفال انطلاقاً من “مبدأ الانتخاب الطبيعي الذي قدمه داروين باعتباره أحد العوامل الرئيسية للتطور. فالحيوانات التي تبقى وتستمر هي التي تتلاءم مع الظروف المتغيرة. وإذا كانت الحيوانات تلعب فإنما يحدث ذلك لأن اللعب يكون نافعاً لها في صراعها للبقاء، ذلك لأن اللعب هو تدريب على المهارات اللازمة لحياة البالغين. فالطفل يحرك باستمرار يديه وأصابع يديه وقدميه، ويثرثر بالكلام ويصيح، فيتعلم السيطرة على جسمه… وكلما زاد ذكاء النوع وقدرته على التكيف، اشتدت حاجته لفترة أطول من الرضاعة والطفولة المحمية اللازمة للمران المكتسب في اللعب عن طريق المحاكاة”.
وعلى الرغم من وجود بعض الوقائع التي لا تستطيع نظرية غروس تفسيرها ومنها لعب البالغين،فهو لا يمكن تفسيره باعتباره تدريباً على مهارات البلوغ، إلا أن القول بأن اللعب مران ما يزال يعتبر قولا صحيحاً حتى اليوم.
•نظرية الاستجمام Recreation Theory :
وضع لازاروس (Lazarus) نظريته في بداية القرن العشرين، ومفادها أن اللعب هدفه استعادة الطاقة البائدة من جراء العمل. إنه راحة من العمل. وبذلك يعارض لازاروس نظرية تصريف الطاقة الزائدة.
وبالطبع فإن هذه النظرية تنطبق أكثر على الكبار مما على الأطفال. فهؤلاء لا يلعبون بعد العمل ولا يكونوا نافذي الطاقة حتى يسترجعونها، لا بل بالعكس فإن ثمة من يعتبر أن اللعب عند الأطفال هو بمثابة العمل عند الكبار.
•نظرية التحليل النفسي:
يرى “فرويد” بأن لكل سلوك دافعاً. والطفل حينما يلعب فإنما هو يعاود عيش خبرات قد تكون مؤلمة ولكن بطريقة تسبب له المتعة. والكثير من الإحباطات والصراعات التي يعيشها الطفل تجد لها تعبيراً في لعب الأطفال، مما يعني أن للعب وظيفة اسقاطية projective . من هنا اعتبر اللعب لدى الطفل كبديل من التداعيات الحرة التي يقوم بها البالغ أثناء جلسة التحليل. واللعب بذاته يقوم أيضاً بوظيفة تنفيس (catharsis) عن الانفعالات الشديدة خصوصاً تلك المرتبطة بالصدمات الانفعالية الشديد. فالطفل الذي تعرّض لصدمة معينة (فقدان شخص عزيز) نراه كثيراً ما يلجأ إلى تصريف انفعالاته القوية التي لا يستطيع التعبيرعنها بواسطة الكلام، مستعيناً بشكل غير واعٍ باللعب، مستخرجاً آثار الصدمة بشكل موارب وغير مباشر.