يرافق اللعب الانسان في مختلف مراحل حياته. صحيح أنه اكثر التصاقاً بمرحلة الطفولة، أو لنقل أنه أكثر ظهوراً فيها ولكن هذا لا يمنع أن يتخذ أشكالاً مختلفة في المراحل الأخرى من العمر. ولا يندر أن نرى رجلاً مسناً يلعب مع طفل بشغف كبير، أو امرأة ناضجة تشارك طفلة صغيرة ألعابها، ويبدو الاثنان البالغان كما لو أنهما يعيشان لحظة سرور حقيقي أكثر منها مراعاة للطفل. على أي حال فإن الثقافة السائدة قد جعلت للعب مكاناً دائماً، فجعلته في السياسة كما في الحب كما الاقتصاد، حتى قيل أن الكبار فقط يلعبون، في حين ان الصغار يتعلمون او يعملون بينما نحن نسمي ما يقومون به لعباً.
إذن في كل مرحلة لعب معين ولكل مرحلة ألعاب خاصة، وسنتوقف فيما يأتي عند كيفية ترافق اللعب وأشكاله مع مراحل النمو متوقفين عند حدود الطفولة المبكرة. وفي جانب ثان سوف نبين كيف ان اللعب يساعد بذاته على تنمية الشخصية من جوانبها المختلفة، حركياً وخيالياً وعاطفياً وذهنياً. وفي جانب ثالث سوف نتوقف عند وظيفة اللعب في تنمية الجانب المعرفي، وثمة نظريتان رئيسيتان في هذا المجال لكل من بياجيه وفيجوتسكي.
أولا: اللعب بحسب مراحل النمو:
1- اللعب من الولادة وحتى عمر السنة والنصف:
يتسم اللعب في هذه المرحلة بأهمية تأسيسية، إذ أنه يساعد الطفل في إطلاق قدراته وتعزيزها. ويتوزع أثر اللعب في جانبين رئيسيين، حسي- حركي من جهة وإدراكي-معرفي من جهة أخرى، هذا مع الاشارة إلى ان الجانبين مترابطان ومتفاعلان من حيث الأثر والتأثير.
في الجانب الحسي الحركي، تبرز وظيفة اللعب في:
-تحريك الأشياء: ألعاب المص وألعاب اليدين. من أمثلة تلك الألعاب الخشخيشة وألعاب من القماش الذي يمكن غسله يقوم الطفل بمسكها وتحريكها، ودمى محشوة وطابة من قماش.
-حركة: العاب جر ورمي والتقاط. أمثلة: عربة ملونة تتحرك، طابة.
وفي الجانب الإدراكي- المعرفي، تبرز وظيفة اللعب في:
-الإستكشاف: الألعاب ذات المقابس والبراغي البلاستيكية الكبيرة.
-ألعاب للعلاقات المكانية والأشكال والأحجام: قطع بلاستيكية كبيرة، بازل من الحجم الكبير، علب مختلفة الأحجام.
-الإدراك: وضع أشياء متحركة امام أعين الطفل، تعلق على السرير أو توضع بجانب الطفل. ملصقات ملونة عليها رسوم زاهية وكبيرة توضع على جدارن الغرفة حيث ينام الطفل. ألعاب تصدر اصواتاً موسيقية هادئة.
-المعرفي: كتب مع إيقاعات، صور، لعب موسيقية.
واجبات المربين: التفاعل
ولكي يمكن للأطفال تحقيق الوظيفة المرجوة من اللعب في هذا العمر، فإن من واجبات البالغين/المربين الذين يحوطون بهم:
-أن يكونوا حاضرين للعب مع الأطفال.
-الاستجابة لإصواتهم.
-الابتسام.
-تهيئة المجال امام الاطفال للتجريب بأيديهم.
-التكلم مع الأطفال.
-لعبة كوكو (تغطية الوجه باليدين ثم كشفه)، ولعبة اخفاء الأغراض وإيجادها.
-التلويح باليدين (باي باي) ولعبة الأيدي (زيت زيت يا حجة، أو كبة كبيبة)
-تسمية الأغراض التي يقدمونها للأطفال.
-الغناء للأطفال ومعهم.
2-اللعب في عمر سنة ونصف وحتى ثلاث سنوات:
يتنوع اللعب في هذه المرحلة ويزداد تعقيداً. ومع أنه يستمر في وظيفة تدعيم الجانبين الحركي والذهني إلا ان هناك أشكالاً جديدة تنشأ وخصوصاً تلك المتعلقة بالجانب الرمزي. فالطفل يبدأ شيئاً فشيئاً في تشكيل عالم خاص من تصوراته وأفكاره، يتعدى العالم الواقعي الذي يعيش فيه ويجعل له بعداً زمنياً ومكانياً يتجاوز الآن والهنا. ويعرف الأهل أن هذا العمر للأطفال هو الأكثر إثارة للتفاعل والشغف ولكنه أيضاً الأكثر إثارة للتعب.
وتتبدى وظيفة اللعب في هذه المرحلة في المجالات الآتية:
-حركات العضلات الكبيرة: ركوب الدراجة ذات الثلاث عجلات، طابات، لعب خارجي في الهواء الطلق، العاب الرمي والالتقاط.
-حركات العضلات الصغيرة: أدوات فنون، كرات، مكعبات من مختلف الاحجام والقياسات…
-تمثلات رمزية: ملابس للألعاب، دمى محشوة، فناجين شاي وأدوات مطبخ…
-حل مشكلات: علب من قياسات مختلفة، بازل، العاب تركيبية…
-إبداع: تلوين، ادوات موسيقية، اوراق وأقلام ومقص آمن.
-لغة: كتب مصورة، مجلات للأطفال، قصص وتسجيلات.
واجبات المربين: الصبر
وكما في المرحلة السابقة فإنه لكي تتحقق وظيفة اللعب على النحو الأمثل يتوجب على البالغين المربين المحيطين بالأطفال في هذا العمر الحضور الذهني والعملي بشكل متواصل. وأن يقدموا لهم المساعدة ويهيئوا لهم مجال اللعب بشكل آمن وفعال من خلال :
-المشاركة في اللعب التظاهري.
-المشاركة في العاب البناء.
-تأمين مكان رحب وآمن للعب الحر.
-اللعب بالحزازير (بالاحاجي).
-الرد على الأسئلة.
-سرد القصص.
-السماح لهم بالمشاركة في بعض الاعمال اليومية.
-مساعدتهم على تسمية الأشياء وتصنيفها.
-مشاركتهم في الغناء.
-الذهاب واياهم في نزهات خارجية.
-اصطحابهم إلى المكتبات.
3-اللعب من عمر 3 سنوات وحتى ست سنوات:
إنه عمر الانطلاق والتفاعل مع الخارج. وبالتالي فإن الجديد البارز في هذه المرحلة يتمثل بالالعاب ذات الطابع الاجتماعي، حيث يجري لعب الادوار فيتعلم الطفل بأقل الخسائر الممكنة كيف يتصرف الأخر وكيف عليه ان يتصرف مع هذا الآخر. من جهة أخرى، هذا العمر اقل تمرداً من العمر السابق، يرضى الأطفال فيه بالقواعد المرسومة ويسعون إلى تطبيقها، ربما تخفيفاً من القلق الناشئ لديهم بشأن الحياة والموت، والذي يجعلهم كذلك يقبلون على ألعاب القوة والبطولة. ومن انواع اللعب في هذا العمر:
-العاب اجتماعية وفكرية: اللعب بالدمى، والعاب الدراما والعاب القال (أي التظاهر الاجتماعي: قال انا ماما…)، البازل، العاب الهواء الطلق، العاب الرقع، والعاب الكمبيوتر البسيطة.
-حل المشكلات: قطع تركيب، ألعاب جماعية، العاب المتاهة، حزازير، منطق…
-ألعاب المكان والأشكال: بازل، أدوات الأوزان، دراجات ثلاثية العجلات، أدوات تتعلق بالمزرعة وبالقرية ، قطارات، سيارات سباق، عربات صغيرة، طائرات، سيارات، بواخر، سكوتر، أدوات القفز والجري….
-إبداع: أقلام، مقصات آمنة، تلوين، أدوات إيقاع…
-لغة: قصص، تسجيلات…
واجبات المربين: التواصل
يجد الأهل انفسهم امام أطفال يسعون لبناء تجربتهم الخاصة ووجهة نظرهم حولها. يتحول الأطفال في هذا العمر من كائنات ترغب بالتعرف على الاشياء والاشخاص في المحيط إلى كائنات ترغب بالفهم والتفسير وإثبات الوجود. لذلك فإن مشاركة الأهل تتمحور في التواصل معهم وذلك من خلال:
-قلب الأدوار.
-المشاركة في محادثات تلفونية تمثيلية.
-المشاركة في العاب الغميضة.
-المشاركة في العاب الشجاعة.
-المشاركة في العاب العد والأعداد.
-المشاركة في ألعاب القوى.
-المشاركة في تقليد الحيوانات والناس.
-استعمال الدمى.
-اللعب مع الأطفال بالحزازير .
-الاصغاء والتكلم عن الاحلام.
-سرد قصص الساحرات.
-تشجيع الأطفال على القراءة
-إشراك الأطفال في الأعمال المنزلية كالطبخ اوالتنظيف.
4-اللعب من عمر 6 وحتى 9 سنوات:
إنه عمر الميل إلى الهدوء والتفكير. يصبح الأطفال أكثر استقلالية وميلاً للتزود بالمعارف عن العالم وحركته، وأقل تطلباً للمشاركة من قبل الأهل لأن الأصدقاء يشكلون رفاق لعب اساسيين. ومن أنواع اللعب في هذا العمر نذكر:
-تفاعل اجتماعي: الألعاب الجماعية، الرياضة، الهوايات، الدراجات، الطابات…
-العاب فكرية: عرائس، أدوات طباعة، سيارات سباق، ادوات تركيب، تجهيزات علمية، أشغال يدوية، كتب، تسجيلات، بازل…
-علاقات مكانية: دراجات، أدوات المشي السريع والتزلج….
-حل المشكلات والابداع: ازياء تنكرية، العاب منزلية، العاب قرى، مجسمات ناس وسيارات، ادوات سحر، ادوات الفنون.
واجبات المربين: المراقبة
مع استغراق الأطفال الأكبر في تنمية ذواتهم والتفاعل مع أترابهم، يجد الأهل أنفسهم أقل حاجة للمشاركة في اللعب إلا في حال دعت الضرورة لوجود لاعب آخر. ولكن يبقى على الأهل دوماً واجب مراقبة الأطفال ومساعدتهم. ويمكن لهم أن يشاركوا في:
-مراقبة لعب الأطفال.
-العاب الأحاجي.
-المشاركة في ألعاب البناء.
-لعب المواقف وارتجال الشخصيات.
-اخبار النكت والنوادر.
-القراءة للأطفال.
-الاستماع لقراءة الأطفال.
-مساعدة الأطفال على الترتيب والتنظيم.
-المشاركة في الألعاب الرياضية.
ثانيا-اللعب وتنمية الشخصية:
ينمي اللعب جوانب متعددة من شخصية الطفل :
الجانب الحركي: هناك العاب تساعد الطفل على تحريك وتوجيه الأشياء وتمريرها من يد إلى يد وتعبئة الأواني، وعلى تشكيل عقود وعلى فك وعقد الأزرار وعلى الرسم والقص.
وفي مثل هذا النوع من الألعاب فإن الإطفال يستخدمون كل اجزاء جسمهم. وتمكنهم الألعاب الحركية من تنسيق الحركة مع توازن الجسم. ويتعلم الطفل أن يوظف طاقاته الجسمانية جيداً وأن يضبط حركاته. ونذكر في هذا الصدد العاب الكرة والحبل والدراجة، وألعاب الهواء الطلق حيث يركض الأطفال ويقفزون ويتسلقون … الخ.
الجانب الابداعي والخيالي في الشخصية: ويتضمن هذا الجانب القدرة على التصور والاختراع. ومن أجل تنمية هذا الجانب يمكننا أن نختار الأغراض الحقيقية او المتخيلة. وكل ما له علاقة بالعمل اليدوي، والعاب التركيب والعاب التجميع.. الخ. وثمة شرط هام لتنمية الجانب الابداعي هو التقليل من إعطاء نماذج جاهزة للأطفال او تعليمات للاتباع، مثل الرسوم المطلوب تلوينها بألوان معينة، والأفضل ترك الحرية للطفل. ومن المعلوم ان قدرتي الابداع والتخيل هما على علاقة مباشرة مع القدرات المعرفية للطفل، وهما تنميان لدى الطفل القدرة على حل المشكلات، ومن هنا أهمية تجنب الموديلات الجاهزة.
ومن هذا النوع نذكر الألعاب التي تساعد على التقليد وتسمح للطفل بامتلاك تصرفات جديدة. إن التقليد هو سيرورة اساسية يمكن للطفل من خلالها أن يستوعب العالم الذي يعيش فيه. وهي الخطوة الأول في اللعب الرمزي حيث يقوم الطفل بلعب ادوار شخصيات حقيقية او وهمية ويخترع تمثيلات يؤديها مستخدماُ الأدوات التنكرية او بدونها. ومخيلة الطفل تصبح في اوجها بين ثلاث وخمس سنوات.
الجانب العاطفي والانفعالي: إنه الجانب الذي يعطي الطفل القدرة على عقد الصلات الانسانية الدائمة والمميزة. والعرائس أو الدمى، والحيوانات المحشوة هي وسائط مناسبة لتدعيم هذا الجانب. وعلينا أن نساعد الطفل ونشجعه على التعبير عن عواطفه وحنانه وأيضاً عن عدوانيته. كما علينا ان نروي له القصص ونقدم له الكتب التي تنقل الاجواء الأسرية والتي تساعده على تقوية التعبير اللغوي لديه. إن القدرة اللغوية سوف تسمح للطفل بالوصول إلى أنماط متعددة من التعبير خصوصاً عن الجانب الواعي والموضوعي من معاشهم. في حين تشكل الألعاب الرمزية وادوات الفنون (الرسم، الموسيقى، الرقص، المسرح، الخ) وسائل هامة للتعبير عن العواطف والانفعالات المرتبطة بالأسرة وبالمحيط التي لا يستطيع الطفل التعبير عنها لغوياً، إما لقصور لغته أو لقصور إدراكه، وإما للبعد اللاواعي في عيشها.
الجانب الذهني الحسي: إن الألعاب التي تنمي القدرات الذهنية عديدة والنمو المعرفي مشترك لدى الأفراد وكل مرحلة تستوعب المرحلة التي تسبقها وتحضر للتي تليها. غير أن كل فرد ينتقل من مرحلة إلى إخرى بحسب إيقاعه الخاص. والألعاب التي تنمي هذا الجانب هي تلك التي تساعد على التجميع والتركيب والبناء والتصنيف والتذكر والانتباه. واللعب بالقلم والورقة يساعد الطفل على مهارات الرسم والتشكيل، وتحريك قطع التركيب يعلم الطفل شيئاً حول الميكانيك، واللعب بالأغراض المتنوعة تعلم الطفل على ابتداع طرق جديدة في التصرف.
الجانب الاجتماعي: إن اللعب في معظم الأحيان يكون علائقياً. ويؤخذ مجموع ومستوى نمو اللعب الرمزي مؤشرأ حول طبيعة النمو الاجتماعي للطفل. وكلما تقدم الطفل في اللعب الرمزي كلما تغيرت علاقاته بالأطفال الآخرين. قبل العام الأول نادراً ما يكون هناك تواصل بين طفلين. ويتعامل طفل في الشهر العاشر من عمره مع طفل بجانبه كما لو أنه لعبة تتكلم، فقد يضع اصبعه في عينيه أو يحاول اجلاسه على كرسي أو يناغيه. ولكن بين 13 و24 شهراً فإن الأطفال يصبحون قادرين على القيام بتفاعلات اجتماعية ذات معنى، فيعطون ويأخذون، او يختبئون ويفتشون، أو يركضون ويلاحقون، مما يعنى أن أهليتهم لمعرفة حاجات الآخرين والانتباه لحساسيتهم قد زادت. وثمة دراسات حديثة اليوم تشير إلى أن الطفل يستطيع منذ بلوغه السنة الأولى من عمره الدخول في صداقة مستقرة.
ثالثاً: اللعب والنمو المعرفي:
إن العلاقة ما بين اللعب والنمو المعرفي تبدو جلية لمن يراقب الأطفال. فهؤلاء كلما ازدادت قدراتهم المعرفية تغير نوع لعبهم، والعكس صحيح أيضاً فكلما تعقد لعبهم كلما دلّ ذلك على نمو معرفي أرقى. ولكن ما هي طبيعة هذه العلاقة؟ وكيف يجري تفسيرها؟
ثمة نظريتان أساسيتان تشرحان هذه العلاقة. النظرية المعرفية لدى بياجيه والنظرية المعرفية لدى فيجوتسكي. الأول يرى أن اللعب كاشف عن النمو المعرفي أكثر مما هو يؤدي إليه، ولا يرى فيه أكثر من وسيط يجعل الطفل يمارس اكتشافاته ويطبق معارفه. أما فيجوتسكي فيعطي اللعب دوراً أكثر مركزية بحيث يعتبره محفزاً على النمو. فالأطفال حينما يلعبون لا يطبقون ما يعرفونه فقط وإنما يتعلمون أشياء جديدة، ويؤدي بهم إلى تفكير جديد.
ومهما يكن من أمر يبقى اللعب في كلتا النظريتين امراً حيوياً بالنسبة إلى نمو الطفل. ونفصل فيما يأتي هاتين النظريتين.
– نظرية بياجيه :
إن الأفكار الرئيسية في نظرية بياجيه يمكن تلخيصها على النحو الآتي :
1- إن الذكاء هو تكيف مع البيئة.
2- إن الطفل يكون بنّاء ونشيطاً منذ اللحظة الأولى لميلاده.
3- تشكل الامكانيات الفطرية الاساس الذي يبني الطفل عليه معرفته.
4- تنمو القدرات الإدراكية وتتغير نتيجة الخبرة مع البيئة.
5- تحدث مراحل النمو المعرفي في تتابع متصاعد.
6- تؤثر البيئة التي ينشأ الطفل فيها في معدل النمو الذي يسير فيه.
7- إن التكيف هو نزوع إنساني فطري وهو يقوم على توازن جيد بين عمليتي التمثل والمواءمة .
وباختصار، يجري النمو المعرفي بحسب بياجيه في مراحل تتتابع بنظام ثابت (المرحلة الحسية الحركية من الولادة وحتى السنتين، مرحلة ما قبل العمليات من سنتين وحتى السابعة، مرحلة العمليات المحسوسة من السابعة وحتى الحادية عشرة، مرحلة العمليات المجردة من الثانية عشرة وما فوق) وكل مرحلة هي مقدمة ضرورية للمرحلة التي تليها. وكل انتقال من مرحلة إلى أخرى يستتبع إعادة تنظيم جوهرية للطريقة التي يبني فيها الفرد (أو يعيد بناء) العالم ويفسره. وبهذا، فان الطفل يمر من مرحلة إلى أخرى مكتسباً طرقاً جديدة لفهم عالمه. وللمثال، يكون لدى طفل في المرحلة الحسية الحركية النسق الحسي الحركي لمفهوم الطابات- فهذه أشياء مدورة يمكن مسكها، قذفها، والتقاطها. أما في عمر 5 أو 6 سنوات، فإن الأطفال يستوعبون الطابات كجزء من لعبة، مثل كرة السلة أو كرة الطائرة. ويمكنهم أن يرتبوا ست طابات بالترتيب من الأصغر إلى الأكبر أو من اللون الفاتح إلى اللون الغامق.
إن توالي المراحل لا يتغير، بسبب كون كل مرحلة تنطلق من إنجازات المرحلة التي سبقتها وتبنى عليها. وفي كل مرحلة جديدة فإن قدرات معرفية اكثر تكيفاً تضاف إلى تلك التي كانت قد أنجزت سابقاً. وبالرغم من كون المراحل تظهر في ترتيب ثابت، إلا أن هناك فروقات فردية كبيرة بين طفل وآخر في سرعة اجتيازها. لذلك فان الأعمار التي تعطى لكل مرحلة هي تقريبية ومتوسطة.
اللعب في نظرية بياجيه:
يذكر بياجيه 3 أنواع للعب في السنوات الأولى من عمر الأطفال وهي :
-اللعب العملي (practice play ) ويقابل المرحلة الحسية الحركية:
يحدث اللعب العملي في المرحلة الحسية الحركية وحتى حوالي السنة والنصف. وهو يأخذ الشكل الأكثر بدائية، وأهميته تكمن في ما يثيره من لذة عملية. يستعيد فيه الطفل الحركات التي نجح في تأديتها ويجد متعة كبيرة في قدرته على النشاط الحركي. ولكن عند حوالي السنة من العمر، تقل الممارسات العملية وتقل أهميتها. ومع الوقت يتحول هذا اللعب في واحد أو اكثر من الأقنية الثلاثة الآتية :
1ً-ينتقل الطفل من التكرار العفوي المجاني للحركات إلى النشاطات المركبة الهادفة، التي يخططها من أجل أهداف معينة.
2ً-يتحول اللعب من الشكل البسيط إلى الشكل الرمزي.
3ً-يصبح اللعب جماعياً له قواعد.
-اللعب الرمزي (symbolic play ( :
يبرز اللعب الرمزي في السنة الثانية من العمر مع بروز التمثل واللغة. وحسب بياجيه فإن “لعب التظاهر” (pretend play ) هو في الأصل نشاط رمزي أحادي يستخدم رموزاً ذات طابع فردي، أما اللعب الجماعي الذي يستخدم رموزً ذات طابع جماعي فلا يظهر قبل نهاية السنة الثالثة من العمر.
وتمثل العاب التظاهر عند الأطفال بالنسبة إلى بياجيه مثالاً على عملية الاستيعاب لأن الأطفال لا يكونون معنيين بالخصائص الموضوعية لألعابهم. فقطعة خشب يمكن أن تستخدم كلعبة، أو سفينة ، أو حائط بحسب اللعبة الجارية. وبالعكس فان التقليد هو عملية مواءمة بشكل أساسي، ذلك أن الأطفال يتصورون أفعالا من اجل التكيف مع نموذج معين يرغبون بتقليده في بيئتهم. ويتضمن اللعب الرمزي في هذه المرحلة العناصر التالية :
1ً – تصرفات متفلتة من أي سياق (التظاهر بتصرفات مألوفة من قبيل النوم، الأكل، الشرب “في فراغ”).
2ً- الانتقال من الذات إلى المرجعيات الأخرى ( مثلا بدلا من أن يمثل أنه ينام فإنه يجعل الدب-اللعبة ينام).
3ً- استخدام أغراض بديلة (عصا بدلا من حصان).
4ً- تركيبات معقدة (بدلا من تقليد فعل واحد، يبني الطفل مشهداً تمثيلياً كاملاً).
وحسب بياجيه فإنه مع تطور اللعب الرمزي يذهب الأطفال أبعد من الإشباع البسيط الناجم عن تحريك الوقائع. بحيث أنهم يتمكنون تدريجياً من استيعاب الواقع الخارجي في داخل الأنا، في مسار من التحريفات والتحويلات. وبذلك، فإن اللعب الرمزي يستخدم من أجل تحقيق اشباعات تخيلية بواسطة عمليات التعويض وتصفية الصراعات وغيرها من العمليات النفسية اللاوعية. من هنا يرى بياجيه أن ثمة وظيفة عاطفية للعب الرمزي، فالأطفال الذين يمرون بتجربة صعبة مثل الخوف من حيوان أو من شخص غريب فإنهم سيعبرون عن هذه التجربة بعد وقت قصير في لعبهم الرمزي. ويتضاءل هذا اللعب حوالي السنة الرابعة عندما يصبح الطفل قادراً تدريجياُ على أخضاع الأنا للواقع.
– اللعب ذو القواعد (play with rules (:
يشير لعب القواعد إلى الانتقال إلى مرحلة نشاط الفرد الاجتماعي. وهذا النوع من اللعب نادراً ما يحدث قبل مرحلة 4-7 سنوات ويبرز أساساً في مرحلة 7-11 سنة. ويشدد بياجيه على أن هذا النوع من اللعب يفترض التفاعل ما بين شخصين على الأقل. وأن من شأن تلك القواعد أن تنظم وتدمج المجموعة الاجتماعية. ومن أشكالها لعب الورق أو الألعاب الرياضية المنظمة. أما القواعد فتنقسم إلى صنفين: الأول الذي يسقط من الخارج، والثاني الذي يتشكل عفوياً.
ويرى بياجيه أن الألعاب العفوية مع القواعد المستندة إلى اتفاق مؤقت تمثل نتيجة التنشئة الاجتماعية في مرحلتي اللعب العملي أو أحياناً اللعب الرمزي. وهو يرى أن لعب القواعد يمثل توازناً دقيقاً بين استيعاب الأنا- وهو مبدأ كل أنواع اللعب- وما بين استيعاب الحياة الاجتماعية .
وباختصار، يؤكد بياجيه على أن تطور اللعب يتجه من المسارات الفردية البحتة والرموز الخاصة الشخصية إلى اللعب الاجتماعي والرمزية الجماعية. ويعبر اللعب عن البنى المعرفية، ولذلك لا يمكن تفسيره إلا انطلاقاً منها. ومع إنجاز القدرة على التمثل، فإن محاولات الاستيعاب لا تعود تحريفية فقط وإنما تصبح أيضاً مصدراً للتمثيل المقصود.
جدول مراحل النمو الذهني وما يقابله من اللعب بحسب بياجيه:
المرحلة الحسية الحركية العاب عملية أو جسمانية: لذة وظيفية من ممارسة النشاط الحركي. مثال تحريك الرأس وسعادة الأطفال بتحقيق ذلك.
المرحلة ما قبل العمليات أو الحدسية اللعب الرمزي: وتتميز هذه المرحلة بظهور اللغة كأداة تعبير خاصة. ويقوم الطفل بالتقليد. أي يتمثل ذهنيا وقائع ليست حاضرة آنياً.
مرحلة العمليات المحسوسة العاب تركيب: ويتجه لعب التركيب لتشكيل تكيفات حقيقية أو حلول لمشكلات أو للإبداع الذهني.
مرحلة العمليات الشكلية لعب القواعد: تساعد على انجاز النمو العاطفي للطفل، وعلى انخراطه في واقعه وعلى تنشئته اجتماعياً. وتستلزم وجود شخصين أو أكثر.
نظرية فيجوتسكي :
فيما يأتي ابرز الأفكار الأساسية في نظرية فيجوتسكي:
– التعليم يجر النمو وهو القوة المحركة له.
– التعلم يجري ضمن سياق سوسيو-ثقافي و بيولوجي.
– التعلم هو عملية مستمرة ومن دون نهاية.
– التعلم يستند على التفاعل الاجتماعي مع الرفاق ومع الكبار، وللمعلم دور اساسي فيه.
– العدّة النفسية (وتضم مختلف الأدوات التي تحمل معنى في الثقافة السائدة وفيها: اللغة، انظمة الترقيم، تقنيات الذاكرة، نظام الرموز في الجبر، ألأعمال الفنية، الكتابة، الأنساق، البيانات، الخرائط، الرسوم التقنية، وكل الإشارات الاتفاقية الأخرى من رموز وتقنيات) هي أساسية في عملية التعلم، واللغة هي الأداة الأهم في هذه العدة.
– البيئة التعليمية، والدوافع الداخلية للتعلم والطموحات، هي عوامل مساعدة في التعلم.
– التزام الطفل الناشط والتبادلية ضروريان للتعلم.
– التعليم الجيد هو الذي يكون أعلى من القدرات المعرفية الحالية.
– يمتلك كل طفل “منطقة نمو مجاور ( أو محتمل) ” ZPD ، وهي مختلفة بحسب الأفراد وبحسب المهمات.
– التعليم هي عملية سقالة Scaffolding.
– التعليم هو تضييق للفجوة بين مستوى النمو الحالي ومستوى النمو الممكن والمعلم الجيد يعرف ماذا يعرف الطفل وماذا يمكنه أن يعرف، ويبني تدخله على تلك المعرفة.
يرى فيجوتسكي أن التعلم هو عملية استدخال للمعارف الموجودة والمتداولة في مجتمع معين. وثمة وسائط عديدة لتداول هذه المعارف تشكل “عدة نفسية”، ويستدخل الطفل هذه المعارف بواسطة التفاعل مع المحيطين به، من رفاق ومن كبار.
إن الناس هم حملة ثقافة أي حملة معنى. وكلما تفاعل الطفل مع شخص أكثر منه معرفة كلما تمكن الوصول إلى معرفة أوسع. وبالطبع فإن الفرد، صغيراً كان أم كبيراً، يمكنه أن يتعلم بمفرده الكثير من المعاني الموجودة في مجتمعه، من خلال الاحتكاك المباشر. ولكن هذا التعلم الذاتي لن يستطيع، بحسب فيجوتسكي، أن يستجيب لكل الامكانيات المتاحة للتعلم. وكثيرا ما يحدث أن وضعية تعلم معقدة تدفع بالمتعلم إلى النفور وعدم التعلم، وفي حال اتفق وجود شخص مساعد فإنه من الأرجح أن تتم عملية التعلم بسهولة اكبر.
تشكل الدافعية والطموح عاملين مهمين للطفل من أجل أن يتعلم، لإنهما يدفعان به إلى مزيد من الاحتكاك ومن التفاعل مع الناس ومع الوسائط حاملة المعاني، ولكنهما غير كافيين وحدهما لاستيعاب مختلف امكانيات التعلم. والدليل ان الناس جميعهم لديهم بشكل أو بآخر مثل هذه الدافعية والطموح، غير إن إمكانيات التعلم المتاحة لهم تختلف تبعا للظروف التي وجدوا أنفسهم فيها.
ويختلف الأطفال في مستوى معرفتهم الحالية كما يختلفون في المستوى القادرين على التوصل إليه. أي أن لدى كل طفل امكانية تقدم نحو تعلم أعلى، وهي ما يسميها فيجوتسكي بمنطقة نمو مجاور أو “ZPD ” للمثال فإن طفلا بإمكانه عملياً العد حتى الخمسة، ولكن إذا قدمنا له مساعدة معينة يمكنه التوصل إلى العدَ حتى عشرة، بينما آخر لن يتمكن مع نفس المساعدة سوى العدَ حتى الرقم ثمانية. وفي مثل هذه الحالة يكون الاثنان قد تعلما شيئاً إضافيا ولكن الأول كانت قدرته على التعلم أكبر. ويمكن الافتراض بالتالي أن بإمكانه حل مسائل أكثر تعقيداً من الطفل الثاني، أي أن منطقة النمو المحتمل لديه هي أكبر من منطقة النمو المحتمل لدى الآخر. وفي هذه الحال إذا اعطينا الاثنين مسائل من ذات المستوى فإن الأول سوف يحرم من إمكانية نمو أكبر كانت متاحة له، أو بالعكس فإن الثاني سوف يجد المعلومة أكثر صعوبة مما يستطيع فهمها ويخسر ايضاً إمكانية التعلم.
ويرى فيجوتسكي أنه لا يمكننا التعليم خارج الحقل الثقافي. فمن هذا الحقل نستمد قيمنا ومعارفنا، وكل تعليم يحمل معنى معيناً، ولا يمكن أن يخرج عن نطاق المعاني المستمدة من الثقافة. فإذا كنا نعيش في مجتمع يعتمد على الصيد مثلا فإن المهارات المتعلقة بالصيد سوف تكون أكثر ما يشد الطفل للتعلم. أما في المجتمعات الصناعية فإن الأطفال يتجهون ناحية تعلم مهارات القراءة والكتابة والتفاوض بوصفها مهارات مطلوبة في حياة البالغين. كما أن الثقافة تؤثر أيضاً في كيفية التعليم وليس فقط في مضمونه. ففي هذه المجتمعات الصناعية يجري تعلم المهارات بواسطة المنهج المدرسي، بمعزل عن السياق الذي تجري فيه، وبطريقة مجردة.
نظرية فيجوتسكي في اللعب:
يتساءل فيجوتسكي في دراسته حول اللعب ودوره في النمو الذهني لدى الطفل: هل اللعب هو النشاط الأهم لدى طفل ما قبل المدرسة؟ أو أنه ببساطة الشكل الأكثر بروزاً لديه؟ ويجيب أن اللعب، من وجهة نظر النمو، ليس هو الشكل المسيطر من النشاط ولكنه هو المصدر الدافع للنمو. ويرفض فيجوتسكي اعتبار اللعب نشاطاً ذهنياً بحتاً ويشدَد على ضرورة اعتباره مرتبطاً أساساً بتلبية حاجات الأطفال، وبدوافعهم ونزوعهم للتصرف وبحالتهم العاطفية. وبرأيه لا يمكن التكلم عن اللعب من دون أخذ هذه العوامل بالاعتبار . ويرى فيجوتسكي ” إن العناصر الانفعالية في اللعب تشكل الأساس الحقيقي للنشاط والقوى الدافعة التي تجذَر اللعب عميقاً في الرغبات وفي النوايا الذاتية. ومن هنا نفهم الشغف الذي يبديه الأطفال للعب والبهجة التي يضفيها على حياتهم” .
ويرى فيجوتسكي أن كل انواع اللعب تتضمن عناصر خيالية ولكنها في الوقت عينه خاضعة للقواعد، لأن الخيال نفسه يجري ضمن بنية ذات معنى وذات قواعد. كما أن للعب خاصية أخرى هي فصل معاني الاشياء والأفعال عن الاشياء والأفعال الحقيقية، اي أنه يؤدي إلى تجارب فكرية معقدة ومجردة تستمد الأفعال فيها من الأفكار أكثر من الأشياء نفسها (مما يتناقض مع نظرية بياجيه حول نمو التفكير المجرد في مرحلة المراهقة وليس قبل ذلك).
ويعتبر فيجوتسكي أن المسار المتنامي للعب يتميز بتغير العلاقات ما بين الوضعيات الخيالية وقواعد اللعب. وفي اللعب الحر يختلق الأطفال وضعيات خيالية ولكن مع قواعد خفية. للمثال فإن لعب دور الماما يستلزم قواعد معينة في التكلم والمشي واللبس والتصرف. صحيح أن قواعد الخيال هذه تحرر الأطفال من العوائق اليومية ولكنها في الوقت نفسه تفرض عوائق أخرى. فالأطفال يعرفون جيداً أن عليهم أن يتقيدوا بالدور الذي يلعبونه حتى لا تهدم اللعبة. الأمر الذي يشير إلى ان الخضوع للقواعد وتضييق العفوية، ليس بالضرورة أمراً قسرياً او متعسفاً وإنما يشير إلى المتعة والنجاح في اللعب.
إن بعض العاب الأطفال تتضمن قواعد معقدة ومع ذلك يطبقها الأطفال بقناعة وبسرور فارضين على أنفسهم الالتزام بها. ويثير هذا الخضوع العفوي للقواعد الاستغراب، خصوصا وأن معلمات الروضة تجدن في كثير من الأحيان صعوبة كبيرة في فرض بعض القواعد البسيطة من قبيل الوقوف بالصف، أو الجلوس بهدوء للاستماع للقصة. هذا الأمر يشير إلى طريقة الأطفال في التصرف إزاء السلطة حينما تكون خارجية ومفروضة عليهم. إلا أن اللعب بذاته يعطي الأطفال فرصة لكي يكونوا متمكنين ومسيطرين وضباط في عالم يهيمن عليه الكبار. مما يؤكد لنا على أن اللعب يمكنه أن يغير من طبيعة العلاقات السلطوية داخل السياق المدرسي بحيث يقوم مركز الضبط لدى الأطفال وليس لدى الكبار .
إن قيمة اللعب تتأتى من ارتباطه بالنمو المعرفي والعاطفي من خلال تلبية احتياجات الطفل للحركة. و”يبدو أن كل تقدم من مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى يرتبط بتغير كلي في دوافع الطفل ونوازعه للتصرف. ويمكن القول أن الأمر الذي يثير الاهتمام الأكبر لطفل في عمر معين هو ما كفّ تقريباً عن إثارة اهتمام طفل في عمر أكبر. إن هذا النضوج في الحاجات والنوازع الجديدة للتصرف يشكل العامل المسيطر، خصوصاً وأنه من المستحيل تجاهل واقع ان الطفل يشبع بعض حاجاته ونوازعه من خلال اللعب. ولن يمكننا بدون فهم الطبيعة الخاصة لهذه النوازع، أن نتخيل مدى فرادة ذلك النشاط الذي ندعوه لعباً” .
ويرى فيجوتسكي أن اللعب يشكل دافعا للأطفال من أجل أن يتعلموا. ويمكن مقارنة نمو علاقات اللعب مع نمو علاقات التعلم، لجهة أن اللعب يؤمن خلفية أوسع بكثير من أجل تغيير الاحتياجات وأشكال الوعي. يمارس الأطفال في أثناء لعبهم أنواعاً من السلوك مثل التحرك في دائرة الخيال، أو في وضعية وهمية، ويمكنهم تصور طرق عيش مختلفة وأهداف مختلقة مما يوحي بالإمكانيات الكبيرة للأطفال حتى قبل دخولهم المدرسة. إن الطفل يتقدم اضطراداً من خلال نشاط اللعب، وبهذا المعنى يمكن اعتبار اللعب النشاط الأساسي الذي يحدد نمو الأطفال.
وفكرة تصور طرق حياة حقيقية تبدو هامة، خصوصاً في سياق اللعب التخيلي. فالأطفال لا ينتقلون من العالم الحقيقي إلى العالم المتخيل وإنما يبقون في حوار مستمر بين العالمين. وفي العاب الخيال يشكل الأطفال لعبهم بالاعتماد على المنطق والتفكير والذاكرة واسترجاع الوقائع والتواصل والتنظيم والقدرة على تقاسم المعنى مع الرفاق. هذا يعني أن الخيال والابداع يظلان مرتبطين إلى حد كبير بالنمو المعرفي والعاطفي وكذلك بالتعلم وبالتفكير وبتوليد الأفكار وبالتواصل. من هنا يرى فيجوتسكي أن اللعب يخلق منطقة نمو مجاورة يمكن للطفل فيها أن يتصرف ابعد مما يتيحه عمره الحالي، وابعد من تصرفاته اليوميه . ويرى أن اللعب هو التحقيق الخيالي، الوهمي، للرغبات غير القابلة للتحقق على أرض الواقع. والخيال هو تشكيل جديد ليس موجوداً في وعي الطفل الصغير جداً، وهو غائب لدى الحيوانات، ويمثل شكلاً انسانياً خاصاً من النشاط الواعي. وهو مثله مثل كل وظائف الوعي، ينبثق في الأصل عن الفعل. ويمكن قلب الفكرة القائلة بأن لعب الأطفال هو خيال متجسد في فعل، إلى أن الخيال لدى أطفال المدرسة والمراهقين هو لعب بدون فعل.
مقارنة بين نظريتي بياجيه وفيجوتسكي:
يبرز الاختلاف الرئيسي بين نظريتي كل من بياجيه وفيجوتسكي في مدى الأهمية التي يولياها للأرضية الاجتماعية. إذ أن بياجيه لا يعيرها اهتماماً يذكر، فالطفل بالنسبة إليه يبني معرفته من خلال نشاطه الذاتي واستكشافه للعالم الذي يتفاعل معه، في حين أن فيجوتسكي يشدد على أن فهم التطور المعرفي لا يمكن أن يجري بدون القاعدة الاجتماعية.
وتجدر الاشارة هنا، أن كلا من فيجوتسكي وبياجيه يتفقان على التأكيد أن التفاعلات ما بين الفردي والاجتماعي هي علائقية. ولكن، عندما يضع فيجوتسكي الوسيط الثقافي في مركز عملية المعرفة لدى الكبار، وفي قلب عملية النمو المعرفي، فإن الجذور الاجتماعية تأخذ أهمية خاصة لديه. في حين نجدها أقل بروزاً لدى بياجيه الذي يحصر دور التفاعلات العلائقية في ” أن التوازن الاجتماعي ينشأ نتيجة تشابك العمليات التي تدخل في متن كل تعاون”. بالنسبة إلى فيجوتسكي يتمتع العالم الاجتماعي بأولية على الفردي. المجتمع هو حامل إرث ثقافي بدونه يكون نمو الفكر مستحيلا. وعندما يهيئ الأهل وأفراد الجماعة البيئة التي سيتربى فيها الطفل، فإن هذه البيئة تصبح مكاناً سوسيو-مادياً ووسيطا ثقافياً وأداة تأويلية. والأطفال في مثل هذه البيئة هم كيانات طبيعية وثقافية منذ ولادتهم، وإن كان المواليد يجهلون معاني الأشياء التي تحيط بهم والطرق التي من خلالها سيتمكنون من ادراج هذه الاشياء في نشاطهم (بما فيها كلمات اللغة، والحفاضات، والاغراض المتحركة، والمصاصة……الخ). إذن يقتحم الماضي الثقافي حياة الأطفال منذ الولادة .